اما قول الصادق علیهالسلام: فان معناه کمال الخلق للانسان و کمال الحواس و ثبات العقل و التمییز و اطلاق اللسان بالنطق، و ذلک قول
الله: «و لقد کرمنا بنى آدم و حملناهم فى البر و البحر و رزقناهم من الطیبات و فضلناهم على کثیر ممن خلقنا تفضیلا» (سورة الاسراء آیة 72). فقد أخبر عزوجل عن تفضیله بنى آدم على سائر خلقه من البهائم و السباع و دواب البحر و الطیر و کل ذى حرکة تدرکه حواس بنى آدم بتمییز العقل و النطق، و ذلک قوله: «لقد خلقنا الانسان فى أحسن تقویم» (سورة التین آیة 4). و قوله: «یا أیها الانسان ما غرک بربک الکریم – الذى خلقک فسواک فعدلک – فى اى صورة ماشاء رکبک» (سورة الانفطار آیات 8، 7، 6). و فى آیات کثیرة، فأول نعمة الله على الانسان صحة عقله و تفضیله على کثیر من خلقه بکمال العقل و تمییز البیان، و ذلک ان کل ذى حرکة على بسیط الارض هو قائم بنفسه بحواسه مستکمل فى ذاته، ففضل بنىآدم بالنطق الذى لیس فى غیره من الخلق المدرک بالحواس، فمن اجل النطق ملک الله ابنآدم غیره من الخلق حتى صار آمرا ناهیا و غیره مسخر له کما قال الله: «کذلک سخرها لکم لتکبروا الله على ماهداکم» )
سورة الحج آیة 38). و قال: «و هو الذى سخر البحر لتأکلوا منه لحما طریا و تستخرجوا منه حلیة تلبسونها» (سورة النحل آیة 14). و قال: «و الانعام خلقها لکم فیها دفء و منافع و منها تأکلون. و لکم فیها جمال حین تریحون و حین تسرحون. و تحمل اثقالکم الى بلد لم تکونوا بالغیه الا بشق الانفس» (سورة النحل آیة 8. و الدفء: السخانة و هى ما یستدفأ به من اللباس المعمول من الصوف و الوبر.). فمن اجل ذلک دعا الله الانسان الى اتباع امره والى طاعته بتفضیله ایاه باستواء الخلق و کمال النطق و المعرفة بعد ان ملکهم استطاعة ما کان تعبدهم به بقوله: «فاتقوا الله ما استطعتم و اسمعوا و اطیعوا» (سورة التغابن آیة 16). و قوله: «لا یکلف الله نفسا الا وسعها» (سورة البقرة). و قوله: «لا یکلف الله نفسا الا ما آتیها» (سورة الطلاق آیة 7). و فى آیات کثیرة. فاذا سلب من العمل حاسة من حواسه رفع العمل عنه بحاسته کقوله: «لیس على الاعمى حرج و لا على الاعرج حرج» (سورة النور آیة 60). فقد رفع عن کل من کان بهذه الصفة الجهاد و جمیع الاعمال التى لایقوم بها، و کذلک اوجب على ذى الیسار الحج و الزکاة لما ملکه من استطاعة ذلک و لم یوجب على الفقیر الزکاة
و الحج، قوله: «ولله على الناس حج البیت من استطاع الیه سبیلا» (سورة آل عمران آیة 91). و قوله فى الظهار: «و الذین یظاهرون من نسائهم ثم یعودون لما قالوا فتحریر رقبة – الى قوله: فمن لم یستطع فاطعام ستین مسکینا» (سورة المجادلة آیة 5، 4).
کل ذلک دلیل على ان الله تبارک و تعالى لم یکلف عباده الا ما ملکهم استطاعته بقوة العمل به و نهاهم عن مثل ذلک فهذه صحة الخلقة.
و اما قوله: تخلیة السرب. فهو الذى لیس علیه رقیب یحظر علیه و یمنعه العمل بما أمره الله به و ذلک قوله فیمن استضعف و حظر علیه العمل فلم یجد حیلة و لا یهتدى سبیلا کما قال الله تعالى: الا المستضعفین من الرجال و النساء و الولدان لا یستطیعون حیلة و لا یهتدون سبیلا» (سورة النساء آیة 100).
. فأخبر ان المستضعف لم یخل سربه و لیس علیه من القول شىء اذا کان مطمئن القلب بالایمان.
و اما المهلة فى الوقت فهو العمر الذى یمتع الانسان من حد ما تجب علیه المعرفة الى اجل الوقت، و ذلک من وقت تمییزه و بلوغ الحلم الى ان یأتیه اجله. فمن مات على طلب الحق و لم یدرک کماله فهو على خیر، و ذلک قوله: «
و من یخرج من بیته مهاجرا الى الله و رسوله – الآیة -» (سورة النساء آیة 100). و ان کان لم یعمل بکمال شرایعه لعلة ما لم یمهله فى الوقت الى استتمام امره. و قد حظر على البالغ ما لم یحظر على الطفل اذا لم یبلغ الحلم فى قوله: «و قل للمؤمنات یغضضن من ابصارهن – الآیة -»(سورة النور آیة 31). فلم یجعل علیهن حرجا فى ابداء الزینة للطفل و کذلک لا تجرى علیه الاحکام.
و اما قوله: الزاد. فمعناه الجدة و البلغة التى یستعین بها العبد على ما امره الله به. و ذلک قوله: «ما على المحسنین من سبیل – الایة -» (سورة التوبة آیة 91). ألا ترى انه قبل عذر من لم یجد ما ینفق و الزم الحجة کل من امکنته البلغة و الراحلة للحج و الجهاد و أشباه ذلک. و کذلک قبل عذر الفقراء و اوجب لهم حقا فى مال الاغنیاء بقوله: «للفقراء الذین احصروا فى سبیل الله – الایة -» (سورة البقرة آیة 273). فأمر باعفائهم و لم یکلفهم الاعداء لما لا یستطیعون و لا یملکون.
و اما قوله: فى السبب المهیج. فهو النیة التى هى داعیة الانسان
الى جمیع الافعال و حاستها القلب فمن فعل و کان بدین لم یعقد قلبه على ذلک لم یقبل الله منه عملا الا بصدق النیة و لذلک اخبر عن المنافقین بقوله: «
یقولون بأفواههم ما لیس فى قلوبهم و الله اعلم بما یکتمون» (سورة آل عمران آیة 166). ثم انزل على نبیه صلى الله علیه و آله و سلم توبیخا للمؤمنین. «
یا أیها الذین آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون – الآیة -» (سورة الصف آیة 2).
فاذا قال الرجل قولا و اعتقد فى قوله دعته النیة الى تصدیق القول باظهار الفعل. و اذا لم یعتقد القول لم تتبین حقیقته. و قد اجاز الله صدق النیة و ان کان الفعل غیر موافق لها لعلة مانع یمنع اظهار الفعل فى قوله: «الا من أکره و قلبه مطمئن بالأیمان» (سورة النحل آیة 106). و قوله: «لایؤاخذکم الله باللغو فى أیمانکم» (سورة البقرة آیة 225). فدل القرآن و اخبار الرسول صلى الله علیه و آله و سلم ان القلب مالک لجمیع الحواس یصحح افعالها و لا یبطل ما یصحح القلب شىء.
فهذا شرح جمیع الخمسة الامثال التى ذکرها الصادق علیهالسلام انها تجمع المنزلة بین المنزلتین و هما الجبر و التفویض. فاذا اجتمع فى الانسان کمال هذه الخمسة الامثال وجب علیه العمل کما لما امر الله عزوجل به و رسوله، و اذا نقص العبد منها خلة کان العمل عنها مطروحا بحسب ذلک.
فاما شواهد القرآن على الاختبار و البلوى بالاستطاعة التى تجمع القول بین القولین فکثیرة. و من ذلک قوله: «و لنبلونکم حتى نعلم المجاهدین منکم و الصابرین و نبلو اخبارکم» (سورة محمد – اى لنعاملکم معاملة المختبر). و قال: «سنستدرجهم من حیث لا یعلمون» (سورة الاعراف آیة 181). و قال: «الم –
أحسب الناس ان یترکوا أن یقولوا آمنا و هم لا یفتنون» (سورة العنکبوت آیة 1)
و قال فى الفتن التى معناها الاختبار «و لقد فتنا سلیمان – الآیة -» (سورة ص آیة 33). و قال فى قصة موسى علیهالسلام: «فانا قد فتنا قومک من بعدک و اضلهم السامرى» (سورة طه آیة 87). و قول موسى: «ان هى الا فتنتک» (سورة الاعراف آیة 154). اى اختبارک فهذه الایات یقاس بعضها ببعض و یشهد بعضها لبعض.
و اما آیات البلوى بمعنى الأختبار قوله: «لیبلوکم فیما آتاکم»
(سورة المائدة آیة 48). و قوله: «ثم صرفکم عنهم لیبتلیکم» (سورة آل عمران آیة 152). و قوله: «انا بلوناهم کما بلونا اصحاب الجنة» (سورة القلم آیة 17). و قوله: «خلق الموت و الحیوة لیبلوکم أیکم احسن عملا» (سورة الملک آیة 2). و قوله: «و اذ ابتلى ابراهیم ربه بکلمات» (سورة البقرة آیة 123). و قوله: «ولو یشاء الله لا نتصر منهم ولکن لیبلو بعضکم ببعض» (سورة محمد آیة 5). و کلما فى القرآن من بلوى هذه الایات التى شرح اولها فهى اختبار و امثالها فى القرآن کثیرة. فهى اثبات الاختبار و البلوى: ان الله جل و عز لم یخلق الخلق عبثا و لا اهملهم سدى و لا اظهر حکمته لعبا و بذلک اخبر فى قوله: «أفحسبتم انما خلقناکم عبثا» (سورة المؤمنون آیة 110). فان قال قائل: فلم یعلم الله ما یکون من العباد حتى اختبرهم؟ قلنا: بلى، قد علم ما یکون منهم قبل کونه و ذلک قوله: «ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه» (سورة الانعام آیة 28). و انما اختبرهم لیعلمهم عدله و لا یعذبهم الا بحجة بعد الفعل. و قد اخبر بقوله: «ولو انا اهلکناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا ارسلت الینا رسولا» (سورة طه آیة 134). و قوله: «و ما کنا معذبین حتى نبعث رسولا»
(سورة الاسراء آیة 16). و قوله: «رسلا مبشرین و منذرین» (سورة النساء آیة 163). فالاختبار من الله بالاستطاعة التى ملکها عبده و هو القول بین الجبر و التفویض. و بهذا نطق القرآن و جرت الاخبار عن الائمة من آل الرسول صلى الله علیه و آله و سلم.
فان قالوا: ما الحجة فى قول الله: «یهدى من یشاء و یضل من یشاء ما أشبهها؟ قیل: مجاز هذه الآیات کلها على معنیین: اما احدهما فاخبار عن قدرته اى انه قادر على هدایة من یشاء و ضلال من یشاء و اذا اخبرهم بقدرته على احدهما لم یجب لهم ثواب و لا علیهم عقاب على نحو ما شرحنا فى الکتاب. و المعنى الاخر ان الهدایة منه تعریفه کقوله: «و اما ثمود فهدیناهم» اى عرفناهم «
فاستحبوا العمى على الهدى» فلو أجبرهم على الهدى لم یقدروا ان یضلوا و لیس کلما وردت آیة مشتبهة کانت الآیة حجة على محکم الآیات اللواتى امرنا بالاخذ بها، من ذلک قوله: «منه آیات محکمات هن أم الکتاب
و أخر متشابهات فأما الذین فى قلوبهم زیغ فیتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأویله و ما یعلم – الآیة -» و قال: «فبشر عبادى الذین یستمعون القول فیتبعون أحسنه» اى أحکمه و اشرحه «اولئک الذین هداهم الله و اولئک هم اولوا الالباب».
وفقنا الله و ایاکم الى القول و العمل لما یحب و یرضى و جنبنا و ایاکم معاصیه بمنه و فضله و الحمدلله کثیرا کما هو اهله و صلى الله على محمد و آله الطیبین و حسبنا الله و نعم الوکیل.