لقد ذکرنا – فى فصل ولادة الامام المهدى (علیهالسلام) – بعض الظروف التى فرضت على الامام العسکرى (علیهالسلام) أن یکتم ولادة ولده الا عن الموثوقین من شیعته، و هکذا لم تساعده الظروف الصعبة التى مر بها لینص على امامة ولده الامام المهدى (علیهالسلام) بصورة علنیة، بل اکتفى باخبار خواص الثقاة من الشیعة؛
و من الطبیعى: ان هذا السر بقى مکتوما، و معلوما فى نطاق ضیق، و هذا الأمر سبب مضاعفات کثیرة عند ضعفاء العقیدة و الایمان من الشیعة فى بعض الأقطار، الذین لم یتأکدوا من ولادة الامام المهدى، و لم یتحقق عندهم صدور النص علیه؛
فاختلق أفراد منهم: کل فرد منهم فکرة، و تبعه اناس على فکرته، فتکونت مذاهب عدیدة، و آراء مختلفة حول الامام العسکرى و ابنه الامام المهدى (علیهماالسلام) و تحقق کلام الامام العسکرى حیث قال: «فى سنة مائتین و ستین تفترق شیعتى».
و مما زاد فى الطین بلة ان جعفر [الکذاب] ادعى الامامة، فتبعه شرذمة من الناس لأهداف یعلمها الله، و خفیت الحقائق، و التبست الامور على الکثیرین من الشیعة الذین لم تساعدهم الظروف لاکتساب المعلومات من المنابع الصافیة
المعتمد علیها؛
و طائفة قالت بحیاة الامام العسکرى و انه لم یمت، و أنه القائم الذى أخبر به النبى و الأئمة (علیهمالسلام) و هولاء هم الفطحیة الذین اعتقدوا بامامة عبدالله الأفطح ابن الامام الصادق (علیهالسلام) فى ضمن الأئمة الاثنى عشر، و تم العدد – عندهم – بالامام العسکرى.
و طائفة قالت: ان الامام العسکرى لا عقب له، و انکروا وجود الامام المهدى.
و طائفة قالت بالفترة، و معناها خلو الزمان من الامام، و قد وردت کلمة (الفترة) فى القرآن، و معناها: انقطاع النبوة، و المقصود من (الفترة) فى کلام تلک الطائفة هو انقطاع الامامة.
و طائفة قالت: ان الامام هو السید محمد الذى توفى فى حیاة أبیه: الامام الهادى ثم انتقلت الامامة الى ولده، و جماعة تاهت، و جماعة تحیرت.
أساطیر و اباطیل – بغیر حساب – انتشرت فى الأوساط الشیعیة، ففرقتهم تفریقا.
ولکن الأکثریة من الشیعة ثبتت على امامة المهدى (علیهالسلام) و هم الذین سمعوا أو بلغهم النص من الامام العسکرى على ولده الامام المهدى (علیهماالسلام).
أما تلک المذاهب فانقرضت بموت أصحابها، و تبخرت بمرور الزمان، و حتى أتباع جعفر أیضا تفرقوا عنه، و بقى وحده فى الساحة، و اخیرا کان یعیش حیاة الاعتزال.
لأن تلک الآراء و الأفکار المستحدثة کانت على خلاف المقاییس الشرعیة الثابتة عند الشیعة، و لم یقدر لها البقاء و الدوام؛
و لیس معنى ذلک أن المشکلة انتهت نهائیا بالسرعة، بل حدثت قضایا و مشاکل موسفة؛
فقد ذکر الشیخ المفید فى (الارشاد) فى ذکر وفاة الامام العسکرى (علیهالسلام):
«و خلف [الامام العسکرى] ابنه المنتظر لدولة الحق، و قد کان [العسکرى] قد أخفى مولده [الامام المهدى] و ستر أمره لصعوبة الوقت، و شدة طلب سلطان الزمان له، و اجتهاده فى البحث عن أمره؛
و لما شاع من مذهب الشیعة الامامیة فیه، و عرف من انتظارهم له، فلم بظهر ولده (علیهالسلام) فى حیاته [العسکرى] و لا عرفه الجمهور بعد وفاته [العسکرى] و تولى جعفر [الکذاب] بن على – أخو أبىمحمد (علیهالسلام) – اخذ ترکته، و سعى فى حبس جوارى أبىمحمد (علیهالسلام) و اعتقال حلائله، و شنع على أصحابه انتظارهم ولده، و قطعهم [اعتقادهم] بوجوده و القول بامامته؛
و أغرى بالقوم [الشیعة] حتى أخافهم و شردهم، و جرى على مخلفى أبىمحمد (علیهالسلام) بسبب ذلک کل عظیمة: من اعتقال و حبس و تهدید و تصغیر و استخفاف و ذل؛
و لم یظفر السلطان منهم بطائل، و حاز جعفر – ظاهرا – ترکة أبىمحمد (علیهالسلام) و اجتهد فى القیام عند الشیعة مقامه [العسکرى] و لم یقبل أحد منهم ذلک. و لا اعتقده فیه!
فصار الى سلطان الوقت یلتمس مرتبة أخیه، و بذل مالا جلیلا، و تقرب بکل ما ظن انه یتقرب به، فلم ینتفع بشىء من ذلک… الى آخره» (1).
و یستفاد من الخبر الآتى ان هذه المشکلة العقائدیة بقیت مدة من الزمان عقدة لا تنحل، و السبب فى ذلک: فقدان المرجع الذى یرجع الشیعة الیه لتعرف الحقیقة، لأن الامام العسکرى (علیهالسلام) فارق الحیاة، و الامام المهدى (علیهالسلام) غاب عن الأبصار، و علماء الطائفة – و هم وکلاء الامام العسکرى (علیهالسلام)
و ثقاة أصحابه – اشتدت علیهم الرقابة، و مرت بهم ظروف صعبة، و فرضت التقیة علیهم السکوت، ریثما ینقشع السحاب، و تنجلى الغبرة؛
و کانت السیدة ام الامام العسکرى قد رجعت من الحج بعد وفاة ولدها الامام، و نزلت فى دار زوجها الامام الهادى، و ولدها: الامام العسکرى (علیهماالسلام) و کانوا یعبرون عنها ب (الجدة) لأنها جدة الامام المهدى (علیهالسلام).
و السیدة حکیمة عمة الامام العسکرى (علیهالسلام) أیضا کانت لها مکانة مرموقة، و منزلة علمیة عند الشیعة، و قد استطاع بعض الشیعة أن یزورها للتعرف عن الحقیقة، و سماع الخبر القطعى حول الموضوع، و الیک الحدیث:
روى الشیخ الصدوق فى (اکمال الدین) بسنده عن أحمد بن ابراهیم قال:
دخلت على حکیمة بنت محمد [الجواد] ابن على الرضا، اخت أبىالحسن [الهادى] صاحب العسکر (علیهالسلام) فى سنة اثنتین و ستین و مائتین، فکلمتها من وراء حجاب، و سألتها عن دینها [الامامة] فسمت لى من تأتم به، ثم قالت: «و الحجة ابن الحسن بن على» (فلان ابن الحسن خ ل) فسمته؛
فقلت لها: جعلنى الله فداک! معاینة أو خبرا؟
فقالت: خبرا عن أبىمحمد (علیهالسلام) کتب به الى امه؛
فقلت لها: فأین الولد (المولود خ ل)؟ فقالت: مستور.
فقلت: الى من تفزع الشیعة؟
فقالت: الى الجدة: ام أبىمحمد (علیهالسلام).
فقلت: أقتدى بمن وصیته الى امرأة؟
فقالت: اقتداء بالحسین بن على (علیهماالسلام) فان الحسین بن على أوصى الى اخته زینب بنت على، سترا (تسترا) على على بن الحسین (علیهماالسلام).
ثم قالت: انکم قوم أصحاب أخبار، أما رویتم ان التاسع من ولد الحسین (علیهالسلام)
یقسم میراثه و هو فى الحیاة؟ (2).
و روى الصدوق – ایضا – بسنده عن محمد بن الطهوى (3) قال:
قصدت حکیمة بنت محمد [الجواد] (علیهالسلام)، بعد مضى [وفاة] أبىمحمد (علیهالسلام) أسألها عن الحجة، و ما قد اختلف فیه الناس من الحیرة التى هم فیها؟
فقالت لى: اجلس. فجلست، ثم قالت:
«یا محمد! ان الله (تبارک و تعالى) لا یخلى الأرض من حجة ناطقة أو صامتة، و لم یجعلها فى أخوین بعد الحسن و الحسین (علیهماالسلام) تفضیلا للحسن و الحسین، و تنزیها لهما أن یکون فى الأرض عدیلهما (عدیل لهما خ ل) (4).
الا أن الله (تبارک و تعالى) خص ولد الحسین بالفضل على ولد الحسن (علیهماالسلام) کما خص ولد هارون على ولد موسى [بن عمران] (علیهالسلام) و ان کان موسى حجة على هارون، و الفضل لولده الى یوم القیامة؛
و لابد للامة من حیرة یرتاب فیها المبطلون، و یخلص فیها المحقون، کیلا یکون للخلق على الله حجة، و ان الحیرة – لابد – واقعة بعد مضى [وفاة] أبىمحمد الحسن (علیهالسلام).
فقلت: یا مولاتى! هل کان للحسین (علیهالسلام) ولد؟
فتبسمت ثم قالت: «اذا لم یکن للحسن (علیهالسلام) عقب فمن الحجة من بعده؟ و قد أخبرتک انه لا امامة لاخوین بعد الحسن و الحسین (علیهماالسلام)… و قالت – فى آخر کلامها -:
«فمضى أبومحمد (علیهالسلام) بعد ذلک بأیام قلائل، و افترق الناس کما ترى؛
و والله انى لأراه [الامام المهدى] صباحا و مساء، و انه لینبئنى عما تسالون عنه فاخبرکم!!
و والله انى لارید أن أسأله عن الشىء، فیبدأنى به، و انه لیرد على الأمر، فیخرج الى منه جوابه من ساعته من غیر مسألتى؛
و قد أخبرنى – البارحة – بمجیئک الى، و أمرنى أن اخبرک بالحق».
قال محمد بن عبدالله [راوى الحدیث]: فوالله لقد اخبرتنى حکیمة بأشیاء لم یطلع علیها أحد الا الله (عزوجل) فعلمت أن ذلک صدق و عدل من الله (عزوجل) لأن الله (عزوجل) قد أطلعه (الامام المهدى) على ما لم یطلع علیه أحدا من خلقه» (5).
أقول: بعد المقارنة بین هذین الحدیثین ینکشف لنا ان راوى الحدیث الأول لم یکن بتلک المنزلة من الثقة و الاعتماد، و لهذا لما سألها: معاینة أو خبرا؟ قالت: خبرا. و لم تخبره بالمعاینة، و أما الراوى الآخر للحدیث فکان یلیق بأن تخبره السیدة حکیمة بهذه الخصوصیات، و لقاءاتها بالامام المهدى (علیهالسلام) و اتصالها الدائم به.
1) الارشاد / 345.
2) اکمال الدین / 501 و 507، باب 45، حدیث 27 و 36.
3) و فى نسخة: المطهرى أو الطهرى و غیرهما.
4) لعل المقصود من کلامها: «و لم یجعلها فى اخوین» ابطال امامة جعفر الکذاب الذى ادعى الامامة، و هو اخو الامام العسکرى.
5) اکمال الدین / 426، باب 42، حدیث 2.