بسم الله الرحمن الرحیم
اعلموا رحمکم الله انا نظرنا فى الاثار و کثرة ما جاءت به الاخبار فوجدناها عند جمیع من ینتحل الاسلام ممن یعقل عن الله جل و عز لاتخلو من معنیین: اما حق فیتبع و اما باطل فیجتنب. و قد اجتمعت الامة قاطبة لا اختلاف بینهم ان القرآن حق لاریب فیه عند جمیع اهل الفرق و فى حال اجتماعهم مقرون بتصدیق الکتاب و تحقیقه، مصیبون، مهتدون، و ذلک بقول رسول الله صلى الله علیه و آله: «لا تجتمع امتى على ضلالة» فاخبر ان جمیع ما اجتمعت علیه الامة کلها حق، هذا اذا لم یخالف بعضها بعضا. و القرآن حق لا اختلاف بینهم فى تنزیله و تصدیقه: فاذا شهد القرآن بتصدیق خبر و تحقیقه و أنکر الخبر طائفة من الامة لزمهم الاقرار به ضرورة حین اجتمعت فى الاصل على تصدیق الکتاب، فان (هى) جحدت و أنکرت لزمها الخروج من الملة.
فأول خبر یعرف تحقیقه من الکتاب و تصدیقه و التماس شهادته علیه خبر ورد عن رسول الله صلى الله علیه و آله و وجد بموافقة الکتاب و تصدیقه بحیث لاتخالفه اقاویلهم، حیث قال: «انى مخلف فیک الثقلین کتاب الله و عترتى – اهل بیتى. لن تضلوا ما تمسکتم بهما و انهما لن یفترقا حتى یردا على الحوض». فلما وجدنا شواهد هذا الحدیث فى کتاب الله نصا مثل قوله عزوجل: «انما ولیکم الله و رسوله
و الذین امنوا الذین یقیمون الصلاة و یؤتون الزکاة و هم راکعون و من یتول الله و رسوله و الذین آمنوا فان حزب الله هم الغالبون.» (سورة المائدة آیة 61، 60) وردت العامة فى ذلک اخبارا لامیرالمؤمنین علیهالسلام انه تصدق بخاتمه و هو راکع فشکر الله ذلک له و أنزل الآیة فیه. فوجدنا رسول الله صلى الله علیه و آله قد اتى بقوله: «من کنت مولاه فعلى مولاه» و بقوله: «انت منى بمنزلة هارون من موسى الا انه لانبى بعدى» و وجدناه یقول: «على یقضى دینى و ینجز موعدى و هو خلیفتى علیکم من بعدى.»
فالخبر الاول الذى استنبطت منه هذه الاخبار خبر صحیح مجمع علیه لا اختلاف فیه عندهم، و هو ایضا موافق للکتاب، فلا شهد الکتاب بتصدیق الخبر و هذه الشواهد الاخر لزم على الامة الأقرار بها ضرورة اذ کانت هذه الاخبار شواهدها من القرآن ناطقة و وافقت القرآن و القرآن وافقها. ثم وردت حقائق الاخبار من رسول الله صلى الله علیه و آله عن الصادقین علیهمالسلام و نقلها قوم ثقات معروفون فصار الاقتداء بهذه الاخبار فرضا واجبا على کل مؤمن و مؤمنة لایتعداه الا اهل العناد. ذلک ان أقاویل آل رسول الله صلى الله علیه و آله متصلة بقول الله و ذلک مثل قوله فى محکم کتابه: «ان الذین یؤذون الله و رسوله لعنهم الله فى الدنیا و الآخرة واعد لهم عذابا مهینا» (سورة الاحزاب آیة 57). و وجدنا نظیر هذه الآیة قول رسول الله صلى الله على و آله: «من آذى علیا فقد آذانى و من آذانى فقد آذى الله و من آذى الله یوشک ان ینتقم منه». و کذلک قوله صلى الله علیه و آله: «من احب علیا فقد احبنى و من أحبنى و من أحبنى فقد أحب الله». و مثل قوله صلى الله علیه و آله فى بنى ولیعة: «لأبعثن الیهم رجلا کنفسى یحب الله و رسوله و یحبه الله و رسوله قم یا على فسر الیهم» (بنو ولیعة – کفینة – حى من کندة). و قوله صلى الله علیه و آله یوم خیبر: «لأبعثن الیهم غدا رجلا یحب الله و رسوله و یحبه الله و رسوله کرارا غیر فرار لا یرجع حتى یفتح الله علیه». فقضى رسول الله صلى الله علیه و آله بالفتح قبل التوجیه فاستشرف لکلامه اصحاب رسول الله صلى الله علیه و آله فلما کان من الغد دعا علیا علیهالسلام
فبعثه الیهم فاصطفاه بهذه المنقبة و سماه کرارا غیر فرار، فسماه الله محبا لله و لرسوله، فاخبر ان الله و رسوله یحبانه.
و انما قدمنا هذا الشرح و البیان دلیلا على ما اردنا و قوة لما نحن مبینوه من امر الجبر و التفویض و المنزلة بین المنزلتین و بالله العون و القوة و علیه نتوکل فى جمیع امورنا. فاذا نبدأ من ذلک بقول الصادق علیهالسلام: «لاجبر و لا تفویض ولکن منزلة بین المنزلتین و هى صحة الخلقة و تخلیة للسرب» (السرب – بالفتح -: الطریق و الصدر – و بالکسر – الطریق و القلب – و بالتحریک – الماء السائل -). و المهلة فى الوقت و الزاد مثل الراحلة و السبب المهیج للفاعل على فعله»، فهذه خمسة اشیاء جمع به الصادق علیهالسلام جوامع الفضل، فاذا نقص العبد منها خلة کان العمل عنه مطروحا بحسبه، فاخبر الصادق علیهالسلام باصل مایجب على الناس من طلب معرفته و نطق الکتاب بتصدیقه فشهد بذلک محکمات آیات رسوله، لأن الرسول صلى الله علیه و آله، و آله (ع) لا یعدو شىء، من قوله و اقاویلهم حدود القرآن، فاذا وردت حقائق الاخبار و التمست شواهدها من التنزیل فوجد لها موافقا و علیها دلیلا کان الاقتداء بها فرضا لایتعداه الا اهل العناد، ذکرنا فى اول الکتاب و لما التمسنا تحقیق ما قاله الصادق علیهالسلام من المنزلة بین المنزلتین و انکاره الجبر و التفویض وجدنا الکتاب قد شهد و صدق مقالته فى هذا و خبر عنه ایضا موافق لهذا، ان الصادق علیهالسلام سئل هل أجبر الله العباد على المعاصى؟ فقال الصادق علیهالسلام: هو اعز و اقهر لهم من ذلک. و روى عنه انه قال: الناس فى القدر على ثلاثة اوجه: رجل یزعم ان الامر مفوض الیه فقد وهن الله فى سلطانه فهو هالک. و رجل یزعم ان الله جل و عز أجبر العباد على المعاصى و کلفهم ما لایطیقون فقد ظلم الله فى حکمه فهو هالک. و رجل یزعم ان الله کلف العباد ما یطیقون و لم یکلفهم ما لایطیقون، فاذا احسن حمد الله و اذا اساء استغفرالله فهذا مسلم بالغ، فأخبر علیهالسلام ان من تقلد الجبر و التفویض ود ان بهما فهو على خلاف الحق فقد شرحت الحبر الذى من دان به یلزمه الخطأ، و ان الذى یتقلد التفویض بلزمه الباطل، فصارت المنزلة بین المنزلتین بینهما.
ثم قال علیهالسلام: و أضرب لکل باب من هذه الابواب مثلا یقرب
المعنى للطالب و یسهل له البحث عن شرحه، تشهد به محکمات ایات الکتاب و تحقق تصدیقه عنه ذوى الالباب و بالله التوفیق و العصمة.
فاما الخبر الذى یلزم من دان به الخطأ فهو قول من زعم ان الله جل و عز أجبر العباد على المعاصى و عاقبهم علیها و من قال بهذا القول فقد ظلم الله فى حکمه و کذبه ورد علیه قوله: «و لا یظلم ربک احدا» (سورة الکهف آیة 47). و قوله: «ذلک بما قدمت یداک و ان الله لیس بظلام للعبید» (سورة الحج آیة 10). و قوله: «ان الله لایظلم الناس شیئا ولکن الناس انفسهم یظلمون» (سورة یونس آیة 45). مع آى کثیرة فى ذکر هذا. فمن زعم انه مجبر على المعاصى فقد احال بذنبه على الله و قد ظلمه فى عقوبته. و من ظلم الله فقد کذب کتابه. و من کذب کتابه فقد لزمه الکفر باجماع الامة. و مثل ذلک مثل رجل ملک عبدا مملوکا لا یملک نفسه و لا یملک عرضا من عرض الدنیا و یعلم مولاه ذلک منه فأمره على علم منه بالمصیر الى السوق لحاجة یأتیه بها و لم یملکه ثمن ما یأتیه به من حاجته و علم المالک ان على الحاجة رقیبا لا یطمع احد فى اخذها منه الابما یرضى به من الثمن و قد وصف مالک هذا العبد نفسه بالعدل و النصفة و اظهار الحکمة و نفى الجور و أوعد عبده ان لم یأته بحاجته أن یعاقبه على علم منه بالرقیب الذى على حاجته انه سیمنعه و علم ان المملوک لا یملک ثمنها و لم یملکه ذلک، فلما صار العبد الى السوق و جاء لیأخذ حاجته التى بعثه المولى لها وجد علیها مانعا یمنع منها الا بشراء و لیس یملک العبد ثمنها، فانصرف الى مولاه خائبا بغیر قضاء حاجته فاغتاظ مولاه من ذلک و عاقبه علیه. الیس یجب فى عدله و حکمه ان لا یعاقبه و هو یعلم ان عبده لا یملک عرضا من عروض الدنیا و لم یملکه ثمن حاجته، فان عاقبه عاقبه ظالما متعدیا علیه مبطلا لما وصف من عدله و حکمته و نصفته و ان لم یعاقبه کذب نفسه فى وعیده ایاه حین أوعده بالکذب و الظلم اللذین ینفیان العدل و الحکمة. تعالى عما یقولون علوا کبیرا، فمن دان بالجبر او بما یدعو الى الجبر فقد ظلم الله و نسبه الى الجور و العدوان، اذ أوجب على من أجبره العقوبة. و من زعم ان الله اجبر العباد فقد اوجب على قیاس قوله ان الله یدفع عنهم العقوبة. و من زعم ان الله یدفع
عن اهل المعاصى العذاب فقد کذب الله فى وعیده حیث یقول: «بلى من کسب سیئة و أحاطت به خطیئته فأولئک اصحاب النار هم فیها خالدون» (سورة البقرة آیة 76). و قوله: «ان الذین یأکلون اموال الیتامى ظلما انما یأکلون فى بطونهم نارا و سیطون سعیرا» (سورة النساء آیة 11). و قوله: «ان الذین کفروا بآیاتنا سوف نصلیهم نارا کلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غیرها لیذوقوا العذاب ان الله کان عزیزا حکیما» (سورة النساء آیة 59). مع آى کثیرة فى هذا الفن ممن کذب وعیدالله و یلزمه فى تکذیبه آیة من کتاب الله الکفر و هو ممن قال الله: «افتؤمنون ببعض الکتاب و تکفرون ببعض فما جزاء من یفعل ذلک منکم الا خزى فى الحیوة الدنیا و یوم القیمة یردون الى اشد العذاب و ما الله بغافل عما یعملون» (سورة البقرة آیة 79). بل نقول: ان الله جل و عز یجازى العباد على اعمالهم و یعاقبهم على افعالهم بالاستطاعة التى ملکهم ایاها، فأمرهم و نهاهم بذلک و نطق کتابه: «من جاء بالحسنة فله عشر امثالها و من جاء بالسیئة فلا یجزى الا مثلها و هم لا یظلمون» (سورة الانفال آیة 161). و قال جل ذکره: «یوم تجد کل نفس ما عملت من خیر محضرا و ما عملت من سوء تود لو ان بینها و بینه امدا بعیدا و یحذرکم الله نفسه» (سورة آل عمران آیة 28). و قال: «الیوم تجزى کل نفس بما کسبت لا ظلم الیوم» (سورة المؤمن آیة 17). فهذه آیات محکمات تنفى الجبر و من دان به. و مثلها فى القرآن کثیر، اختصرنا ذلک لئلا یطول الکتاب و بالله التوفیق.
و اما التفویض الذى أبطله الصادق علیهالسلام و أخطأ من دان به و تقلده فهو قول القائل: ان الله جل ذکره فوض الى العباد اختیار أمره و نهیه و أهملهم. و فى هذا کلام دقیق لمن یذهب الى تحریره و دقته. والى هذا ذهبت الائمة المهتدیة من عترة الرسول صلى الله علیه و آله، فانهم قالوا: لو فوض الیهم على جهة الاهمال لکان لازما له رضى ما اختاروه و استوجبوا منه الثواب و لم یکن علیهم فیما جنوه العقاب اذ کان الاهمال واقعا. و تنصرف بآرائهم ضرورة کره ذلک ام احب فقد لزمه الوهن، او یکون جل و عز عجز عن تعبدهم بالأمر و النهى على ارادته کرهوا او احبوا ففوض امره و نهیه الیهم
و اجراهما على محبتهم اذ عجز عن تعبدهم، بارادته فجعل الاختیار الیهم فى الکفر و الایمان و مثل ذلک مثل رجل ملک عبدا ابتاعه لیخدمه و یعرف له فضل ولایته و یقف عند امره و نهیه، و ادعى مالک العبد انه قاهر عزیز حکیم، فأمر عبده و نهاه و وعده على اتباع امره عظیم الثواب و أوعده على معصیته الیم العقاب، فخالف العبد ارادة مالکه و لم یقف عند أمره و نهیه فأى أمر أمره أو أى نهى نهاه عنه لم یأته على ارادة الموالى بل کان العبد یتبع ارادة نفسه و اتباع هواه و لا یطیق المولى ان یرده الى اتباع امره و نهیه و الوقوف على ارادته، ففوض اختیار امره و نهیه الیه و رضى منه بکل ما فعله على ارادة العبد لا على ارادة المالک و بعثه فى بعض حوائجه و سمى له الحاجة فخالف على مولاه و قصد لارادة نفسه و اتبع هواه، فلما رجع الى مولاه نظر الى ما اتاه به فاذا هو خلاف ما امره به، فقال له: لم اتیتنى بخلاف ما أمرتک؟ فقال العبد: اتکلت على تفویضک الامر الى فاتبعت هواى و ارادتى، لان المفوض الیه غیر محضور علیه فاستحال التفویض.
او لیس یجب على هذا السبب اما ان یکون المالک للعبد قادر یأمر عبده باتباع امره و نهیه على ارادته لا على ارادة العبد و یملکه من الطاقة بقدر ما یأمره به و ینهاه عنه، فاذا أمره بأمر و نهاه عن نهى عرفه الثواب و العقاب علیهما. و حذره و رغبه بصفة ثوابه و عقابه لیعرف العبد قدرة مولاه بما یملکه من الطاقة لامره و نهیه و ترغیبه و ترهیبه، فیکون عدله و انصافه شاملا له و حجته واضحة علیه للاعذار و الانذار. فاذا اتبع العبد امر مولاه جازاه و اذا لم یزدجر عن نهیه عاقبه او یکون عاجزا غیر قادر ففوض أمره الیه أحسن أم أساء، أطاع أم عصى، عاجز من عقوبته ورده الى اتباع امره، و فى اثبات العجز نفى القدرة و التأله و ابطال الامر و النهى و الثواب و العقاب و مخالفة الکتاب اذ یقول: «و لا یرضى لعباده الکفر و ان تشکروا یرضه لکم» (سورة الزمر آیة 9). و قوله عزوجل: «اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن الا و انتم مسلمون» (سورة آل عمران آیة 79). و قوله و ما خلقت الجن و الانس الا لیعبدون. ما أرید منهم من رزق و ما أرید أن یطعمون» (سورة الذاریات آیة 57، 56) و قوله: «اعبدوا الله و لا
تشرکوا به شیئا» (سورة النساء آیة 40). و قوله: «و أطیعوا الله و أطیعوا الرسول و لا تولوا عنه و انتم تسمعون.
فمن زعم ان الله تعالى فوض امره و نهیه الى عباده فقد اثبت علیه العجز و أوجب علیه قبول کل ماعملوا من خیر و شر وأبطل أمر الله و نهیه و وعده و وعیده، لعلة ما زعم ان الله فوضها الیه لان المفوض الیه یعمل بمشیئته، فان شاء الکفر او الایمان کان غیر مردود علیه و لا محظور، فمن دان بالتفویض على هذا المعنى فقد ابطل جمیع ما ذکرنا من وعده و وعیده و أمره و نهیه و هو من اهل هذه الآیة «افتؤمنون ببعض الکتاب و تکفرون ببعض فما جزاء من یفعل ذلک منکم الا خزى فى الحیاة الدنیا و یوم القیامة یردون الى اشد العذاب و ما الله بغافل عما تعملون (سورة النساء آیة 79)» تعالى عما یدین به اهل التفویض علوا کبیرا.
لکن نقول: ان الله جل و عز خلق الخلق بقدرته و ملکهم استطاعة تعبدهم بها، فأمرهم و نهاهم بما اراد فقبل منهم اتباع امره و رضى بذلک لهم و و نهاهم عن معصیته و ذم من عصاه و عاقبه علیها ولله الخیرة فى الامر و النهى، یختار مایرید و یأمر به و ینهى عما یکره و یعاقب علیه بالاستطاعة التى ملکها عباده لاتباع امره و اجتناب معاصیه، لانه ظاهر العدل و النصفة و الحکمة البالغة، بالغ الحجة بالأعذار و الأنذار و الیه الصفوة یصطفى من عباده من یشاء لتبلیغ رسالته على عباده، اصطفى محمدا صلى الله علیه و آله و بعثه برسالاته الى خلقه، فقال من قال من کفار قومه حسدا و استکبارا: «لولا نزل هذا القرآن على رجل من القریتین عظیم» (سورة الزخرف آیة 30). یعنى بذلک أمیة بن ابىالصلت و ابامسعود الثقفى، فأبطل الله اختیارهم و لم یجز لهم اراءهم حیث یقول: «أهم یقسمون رحمة ربک نحن قسمنا بینهم معیشتهم فى الحیاة الدنیا و رفعنا بعضهم فوق بعض درجات لیتخذ بعضهم بعضا سخریا و رحمة ربک خیر مما یجمعون» (سورة الزخرف آیة 31). و لذلک اختار من الامور ما احب و نهى عما کره، فمن اطاعه اثابه. و من عصاه عاقبه، ولو فوض اختیار امره الى عباده لأجاز لقریش اختیار امیة بن ابىالصلت و ابىمسعود الثقفى، اذ کانا عندهم افضل من محمد صلى الله علیه و آله.
فلما أدب الله المؤمنین بقوله: و ما کان لمؤمن و لا مؤمنة اذا قضى الله و رسوله امرا أن یکون لهم الخیرة من امرهم» (سورة الاحزاب آیة 36). فلم جز لهم الاختیار باهوائهم و لم یقبل منهم الا اتباع امره و اجتناب نهیه على یدى من اصطفاه، فمن اطاعه رشد و من عصاه ضل و غوى و لزمته الحجة بما ملکه من الاستطاعة لاتباع امره و اجتناب نهیه، فمن اجل ذلک حرمه ثوابه و أنزل به عقابه.
و هذا القول بین القولین لیس بجبر و لا تفویض و بذلک اخبر امیرالمؤمنین صلوات الله علیه عبایة بن ربعى الاسدى حین سأله عن الاستطاعة التى بها یقوم و یقعد و یفعل، فقال له امیرالمؤمنین علیهالسلام: سألت عن الاستطاعة تملکها من دون الله او مع الله فسکت عبایة، فقال له امیرالمؤمنین علیهالسلام: قل یا عبایة، قال و ما اقول؟ قال علیهالسلام: ان قلت: انک تملکها مع الله قتلتک. و ان قلت: تملکها من دون الله قتلتک قال عبایة: فما اقول یا امیرالمؤمنین؟ قال علیهالسلام: تقول انک تملکها بالله الذى یمکها من دونک، فان یملکها ایاک کان ذک من عطائه، و ان یسلبکها کان ذلک من بلائه، هو المالک لما ملک و القادر على ما علیه أقدرک، اما سمعت الناس یسألون الحول و القوة حین یقولون لا حول و لا قوة الا بالله. قال عبایة: و ما تأویلها یا امیرالمؤمنین؟ قال علیهالسلام: لا حول عن معاصى الله الا بعصمة الله و لا قوة لنا على طاعة الله الا بعون الله، قال: فوثب عبایة فقبل یدیه و رجلیه.
و روى عن امیرالمؤمنین علیهالسلام حین اتاه نجدة یسأله عن معرفة الله، قال: یا امیرالمؤمنین بماذا عرفت ربک؟ قال علیهالسلام: بالتمییز الذى خولنى و العقل الذى دلنى، قال افمجبول انت علیه قال: لو کنت مجبولا ما کنت محمودا على احسان و لا مذموما على اساءة و کان الحسن اولى باللائمة من المسىء فعلمت ان الله قائم باق و ما دونه حدث حائل زائل، و لیس القدیم الباقى کالحدث الزائل، قال نجدة أجدک اصبحت حکیما یا امیرالمؤمنین، قال: أصبحت مخیرا، قال اتیت السیئة (ب) مکان السیئة فأنا المعاقب علیها.
و روى عن امیرالمؤمنین علیهالسلام انه قال لرجل سأله بعد انصرافه من الشام، فقال: یا امیرالمؤمنین اخبرنا عن خروجنا الى
الشام بقضاء و قدر؟ قال علیهالسلام: نعم یا شیخ، ما علوتم تلعة (التلعة:
ما علا من الارض) و لا هبطتم و ادیا الا بقضاء و قدر من الله، فقال الشیخ: عندالله احتسب عنائى یا أمیرالمؤمنین؟ فقال علیهالسلام: مه یا شیخ، فان الله قد عظم اجرکم فى مسیرکم و انتم سائرون، و فى مقامکم و انتم مقیمون، و فى انصرافکم و انتم منصرفون و لم تکونوا فى شىء من امورکم مکرهین و لا الیه مضطرین، لعلک ظنت انه قضاء حتم و قدر لازم، لو کان کذلک لبطل الثواب و العقاب و لسقط الوعد و الوعید و لما الزمت الاشیاء اهلها على الحقائق ذلک مقالة عبدة الاوثان و اولیاء الشیطان، ان الله جل و عز أمر تخییرا و نهى تحذیرا و لم یطع مکرها و لم یعص مغلوبا و لم یخلق السموات و الارض و ما بینهما باطلا ذلک ظن الذین کفروا فویل للذین کفروا من النار فقام الشیخ فقبل رأس امیرالمؤمنین علیهالسلام و انشأ یقول:
انت الامام الذى نرجوا بطاعته++
یوم النجاة من الرحمن غفرانا
اوضحت من دیننا ما کان ملتبسا++
جزاک ربک عنا فیه رضوانا
فلیس معذرة فى فعل فاحشة++
قد کنت راکبها ظلما و عصیانا
فقد دل امیرالمؤمنین علیهالسلام على موافقة الکتاب و نفى الجبر و التفویض اللذین یلزمان من دان بهما و تقلدهما الباطل و الکفر و تکذیب الکتاب و نعوذ بالله من الضلالة و الکفر، و لسنا ندین بجبر و لا تفویض لکنا نقول بمنزلة بین المنزلتین و هو الامتحان و الاختبار بالاستطاعة التى ملکنا الله و تعبدنا بها على ما شهد به الکتاب و دان به الائمة الابرار من آل الرسول صلوات الله علیهم.
و مثل الاختبار بالاستطاعة مثل رجل ملک عبدا و ملک مالا کثیرا أحب ان یختبر عبده على علم منه بما یؤول الیه، فملکه من ماله بعض ما احب و وقفه على امور عرفها العبد فأمره ان یصرف ذلک المال فیها و نهاه عن اسباب لم یحبها و تقدم الیه ان یجتنبها و لا ینفق من ماله فیها، و المال یتصرف فى اى الوجهین، فصرف المال احدهما فى اتباع امر المولى و رضاه، و الاخر صرفه فى اتباع نهیه و سخطه. و اسکنه دار اختیار اعلمه انه غیر دائم له السکنى فى الدار و ان له دارا غیرها و هو مخرجه الیها فیها ثواب و عقاب دائمان، فان انفذ العبد المال الذى ملکه مولاه فى الوجه الذى امره به جعل له ذلک
الثواب الدائم فى تلک الدار التى اعلمه انه مخرجه الیها، و ان انفق المال فى الوجه الذى نهاه عن انفاقه فیه جعل له ذلک العقاب الدائم فى دار الخلود.
و قد حد المولى فى ذلک حدا معروفا و هو المسکن الذى اسکنه فى الدار الاولى،
فاذا بلغ الحد استبدل المولى بالمال و بالعبد على انه لم یزل مالکا للمال و العبد فى الاوقات کلها الا انه وعد ان لا یسلبه ذلک المال ما کان فى تلک الدار الا ان یستتم سکناه فیها فوفى له لان من صفات المولى العدل و الوفاء و النصفة و الحکمة، أولیس یجب ان کان ذلک العبد صرف ذلک المال فى الوجه الماجور به أن یفى له بما وعده من الثواب و تفضل علیه بأن استعمله فى دار فانیة و أثابه على طاعته فیها نعیما دائما فى دار باقیة دائمة. و ان صرف العبد المال الذى ملکه مولاه ایام سکناه تلک الدار الاولى فى الوجه المنهى عنه و خالف امر مولاه کذلک تجب علیه العقوبة الدائمة التى حذره ایاها، غیر ظالم له لما تقدم الیه و اعلمه و عرفه و أوجب له الوفاء بوعده و وعیده، بذلک یوصف القادر القاهر. و اما المولى فهو الله جل و عز، و اما العبد فهو ابنآدم المخلوق، و المال قدرة الله الواسعة، و محنته اظهار (ه)؟ الحکمة و القدرة. و الدار الفانیة و بعض المال الذى ملکه الله هو الاستطاعة التى ملک ابنآدم. و الامور التى امر الله بصرف المال الیها هو الاستطاعة لاتباع الانبیاء و الاقرار بما اوردوه عن الله جل و عز و اجتناب الاسباب التى نهى عنها هى طرق ابلیس. و اما وعده بالنعیم الدائم و هى الجنة. و اما الدار الفانیة فهى الدنیا. و اما الدار الاخرى فهى الدار الباقیة و هى الآخرة و القول بین بین الجبر و التفویض هو الاختبار و الامتحان و البلوى بالاستطاعة التى ملک العبد.
و شرحها فى الخمسة الامثال التى ذکرها الصادق علیهالسلام (اى صحة الخلقة، و تخلیة السرب، و المهلة فى الوقت، و الزاد و السبب المهیج) انها جمعت جوامع الفضل و انا مفسرها بشواهد من القرآن و البیان ان شاء الله.